فصل: سنة ثمان وثمانين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر عدة حوادث:

حج بالناس هذه السنة هشام بن إسماعيل المخزومي. وكان العامل على العراق والمشرق الحجاج بن يوسف. وفيها غزا محمد بن مروان أرمينية فصاف فيها وشتى.
وفي هذه السنة مات عمرو بن حريث المخزومي. وفيها مات عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي، وقيل سنة سبع، وقيل سنة ثمان وثمانين، وفيها مات عبد الله بن عامر بن ربيعة حليف بني عدي، وكان له لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم، وأربع سنين. ثم دخلت:

.سنة ست وثمانين:

.ذكر وفاة عبد الملك:

في هذه السنة توفي عبد الملك بن مروان منتصف شوال، وكان يقول: أخاف الموت في شهر رمضان، فيه ولدت وفيه فطمت وفيه جمعت القرآن، وفيه بايع لي الناس، فمات للنصف من شوال حين أمن الموت في نفسه. وكان عمره ستين سنة، وقيل ثلاثاً وستين سنة، وكانت خلافته من لدن قتل ابن الزبير ثلاث عشرة سنةً وأربعة أشهر إلا سبع ليالٍ، وقيل وثلاثة أشهر وخمسة عشر يوماً.
ولما اشتد مرضه قال بعض الأطباء: إن شرب الماء مات. فاشتد عطشه فقال: يا وليد اسقني ماء. قال: لا أعين عليك. فقال لابنته فاطمة: اسقيني ماء. فمنعها الوليد. فقال: لتدعنها أو لأخلعنك. فقال: لم يبق بعد هذا شيء؛ فسقته فمات. ودخل الوليد عليه وابنته فاطمة عند رأسه تبكي فقال: كيف أمير المؤمنين؟ قال: هو أصلح. فلما خرج قال عبد الملك:
ومستخبر عنا يريد لنا الردى ** ومستخبرات والدموع سواجم

وأوصى بنيه فقال: أوصيكم بتقوى الله فإنها أزين حلية وأحصن كهف، ليعطف الكبر منكم على الصغير، وليعرف الصغير حق الكبير، وانظروا مسلمة فاصدروا عن رأيه فإنه نابكم الذي عنه تفترون، ومجنكم الذي عنه ترمون، فأكرموا الحجاج فإنه الذي وطأ لكم المنابر ودوخ لكم البلاد وأذل الأعداء، وكونوا بني أم بردة لا تدب بينكم العقارب، وكونوا في الحرب أمراراً فإن القتال لا يقرب ميتة، وكونوا للمعروف مناراً فإن المعروف يبقى أجره وذكره، وضعوا معروفكم عند ذوي الأحساب فإنهم أصون له وأشكر لما يؤتى إليهم منه، وتمغدوا ذنوب أهل الذنوب فإن استقالوا فأقيلوا وإن عادوا فانتقموا.
ولما توفي دفن خارج باب الجابية وصلى عليه الوليد، فتمثل هشام:
فما كان قيس هلكه هلك واحد ** ولكنه بنيان قومٍ تهدما

فقال الوليد: اسكت فإنك تتكلم بلسان شيطان، ألا قلت كما قال أوس بن حجر:
إذا مقرمٍ منا ذرا حد نابه ** تخمط منا ناب آخر مقرم

وقيل: إن سليمان تمثل بالبيت الأول، وهو الصحيح، لأن هشاماً كان صغيراً له أربع عشرة سنة. وقد رثى الشعراء عبد الملك، كثير عزة وغيره، فمما قيل فيه:
سقاك ابن مروانٍ من الغيث مسبل ** أجش شمالي يجود ويهطل

فما في حياةٍ بعد موتك رغبة ** لحرٍ وإن كنا الوليد نؤمل

.ذكر نسبه وأولاده وأزواجه:

أما نسبه فهو أبو الوليد عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف.
وأمه عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية.
وأما أولاده وأزواجه فمنهم: الوليد وسليمان ومروان الأكبر، درج، وعائشة؛ أمهم ولادة بنت العباس بن جزء بن الحارث بن زهير بن خزيمة العبسية؛ ومنهم يزيد ومروان ومعاوية، درج، وأم كلثوم؛ وأمهم عاتكة ابنة يزيد بن معاوية بن معاوية بن أبي سفيان؛ ومنهم هشام، وأمه أم هشام بنت إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومية، واسمها عائشة؛ ومنهم أبو بكر، وهو بكار، أمه عائشة بنت موسى بن طلحة بن عبيد الله؛ ومنهم الحكم، درج، أمه أم أيوب بنت عمرو بن عثمان بن عفان؛ ومنهم فاطمة بنت عبد الملك، أمها أم المغيرة بنت المغيرة بن خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة؛ ومنهم عبد الله ومسلمة والمنذر وعنبسة وحمد وسعيد الخير والحجاج لأمهات أولاد.
وكان له من النساء شقراء بنت مسلم بن حليس الطائي وأم أبيها ابنة عبد الله بن جعفر بن أبي طالب. وقيل: كان عنده ابنة لعلي بن أبي طالب، ولا يصح.

.ذكر بعض أخباره:

كان عبد الملك عاقلاً حازماً أديباً لبيباً عالماً.
قال أبو الزياد: كان فقهاء المدينة أربعة: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وقبيصة بن ذؤيب، وعبد الملك بن مروان. وقال الشعبي: ما ذاكرت أحداً إلا وجدت لي الفضل عليه إلا عبد الملك، فإني ما ذاكرته حديثاً إلا زادني فيه، ولا شعراً إلا زادني فيه وقال جعفر بن عقبة الخطائي: قيل لعبد الملك: أسرع إليك الشيب. فقال: شيبني ارتقاء المنابر وخوف اللحن.
وقال عبد الملك: ما أعلم أحداً أقوى على هذا الأمر مني، إن ابن الزبير لطويل الصلاة، كثير الصيام، ولكن لبخله لا يصلح أن يكون سائساً.
قال أبو مسهر: قبل لعبد الملك في مرضه: كيف تجدك؟ قال: أجدني كما قال الله تعالى: {ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرةٍ وتركتم ما خولنا كم وراء ظهوركم} الأنعام: 94 الآية، وقال المفضل بن فضالة عن أبيه: استأذن قوم على عبد الملك بن مروان وهو شديد المرض فدخلوا عليه وقد أسنده خصي إلى صدره، فقال لهم: إنكم دخلتم علي عند إقبال آخرتي وإدبار دنياي، وإني تذكرت أرجى عمل لي فوجدتها غزوة غزوتها في سبيل الله وأنا خلو من هذه الأشياء، فإياكم وإيا أبوابنا هذه الخبيثة أن تطيفوا بها. وقال سعيد بن عبد العزيز التنوخي: لما نزل بعبد الملك بن مروان الموت أمر بفتح باب قصره، فإذا قصار يقصر ثوباً فقال: يا ليتني كنت قصاراً! يا ليتني كنت قصاراً! مرتين. فقال سعيد بن عبد العزيز: الحمد الله الذي جعلهم يفزعون إلينا ولا نفزع إليهم.
وقال سعيد بن بشير: إن عبد الملك حين ثقل جعل يلوم نفسه ويضرب يده على رأسه وقال: وددت أني كنت أكتسب يوماً بيوم ما يقوتني وأشتغل بطاعة الله، فذكر ذلك لابن خازم، فقال: الحمد لله الذي جعلهم يتمنون عند الموت ما نحن فيه ولا نتمنى عند الموت ما هم فيه.
وقال مسعود بن خلف: قال عبد الملك بن مروان في مرضه: والله وددت أني عبد لرجل من تهامة أرعى غنماً في جبالها وأني لم أك شيئاً.
وقال عمران بن موسى المؤدب: يروى أن عبد الملك بن مروان لما اشتد مرضه قال: ارفعوني على شرف. ففعل ذلك. فتنسم الروح ثم قال: يا دنيا ما أطيبك! إن طويلك لقصير، وإن كبيرك لحقير، وإن كنا منك لفي غرور! وتمثل بهذين البيتين:
إن تناقش يكن نقاشك يار ** ب عذاباً، لا طوق لي بالعذاب

أو تجعوز فأنت رب صفوح ** عن مسيء ذنوبه كالتراب

ويروى أن هذه الأبيات تمثل بها معاوية، ويحق لعبد الملك أن يحذر هذا الحذر ويخاف، فإن من يكن الحجاج بعض سيئاته يعلم على أي شيء يقدم عليه.
قال عبد الملك لسعيد بن المسيب: يا أبا محمد صرت أعمل الخير فلا أسر به، وأصنع الشر فلا أساء به. فقال: الآن تكامل فيك موت القلب.
وكان عبد الملك أول من غدر في الإسلام، وقد تقدم فعله بعمرو بن سعيد، وكان أول من نقل الديوان من الفارسية إلى العربية، وأول من نهى عن الكلام في حضرة الخلفاء، وكان الناس قبله يراجعونهم، وأول خليفة بخل، وكان يقال له رشح الحجارة لبخله، وأول من نهى عن المر بالمعروف، فإنه قال في خطبته بعد قتل ابن الزبير: ولا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه.

.ذكر خلافة الوليد بن عبد الملك:

فلما دفن عبد الملك بن مروان انصرف الوليد عن قبره فدخل المسجد وصعد المنبر واجتمع إليه الناس فخطبهم وقال: إنا له وإنا إليه راجعون، والله المستعان على مصيبتنا لموت أمير المؤمنين، والحمد لله على ما أنعم علينا من الخلافة، قوموا فبايعوا.
وكان أول من عزى نفسه وهنأها؛ وكان أول من قام لبيعته عبد الله بن همام السولي وهو يقول:
الله أعطاك التي لا فوقها ** وقد أراد الملحدون عوقها

عنك ويأبى الله إلا سوقها ** إليك حتى قلدوك طوقها

فبايعه ثم قام الناس لبيعته.
وقد قيل: إن الوليد لما صعد المنبر حمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس لا مقدم لما أخر الله، ولا مؤخر لما قدم، وهذا كان من قضاء الله وسابق علمه، وما كتب على أنبيائه وحملة عرشه الموت، وقد صار إلي منازل الأبرار ولي هذه الأمة بالذي يحق عليه لله في الشدة على المريب، واللين لأهل الحق والفضل، وإقامة ما أقام الله من منار الإسلام، وأعلامه، من حج البيت وغزو الثغور وشن الغارة على أعداء الله، فلم يكن عاجزاً ولا مفرطاً. أيها الناس عليكم بالطاعة ولزوم الجماعة، فإن الشيطان مع الفرد. أيها الناس من أبدى لنا ذات نفسه ضربنا الذي فيه عيناه، ومن سكت مات بدائه. ثم نزل. وكان جباراً عنيداً.

.ذكر ولاية قتيبة خراسان وما كان منه هذه السنة:

وفي هذه السنة قدم قتيبة خراسان أميراً عليها للحجاج، فقدمها والمفضل يعرض الجند للغزاة، فخطب قتيبة الناس وحثهم على الجهاد، ثم عرضهم وسار، وجعل بمرو على حربها إياس بن عبد الله بن عمرو، وعلى الخراج عثمان السعيدي.
فلما كان بالطالقان أتاه دهاقين بلخ وساروا معه، فقطع النهر، فتلقاه ملك الصغانيان بهدايا ومفاتيح من ذهب ودعاه إلى بلاده، فمضى معه، فسلمها إليه لأن ملك آخرون وسومان كان يسيء جواره.
ثم سار قتيبة منها إلى آخرون وسومان، وهما من طخارستان، فصالحه ملكهما على فدية أداها إليه فقلبها قتيبة قم انصرف إلى مرو واستخلف على الجند أخاه صالح بن مسلم، ففتح صالح بعد رجوع قتيبة كاشان وأورشت، وهي من فرغانة، وفتح أخشيكت، وهي مدينة فرغانة القديمة، وكان معه نصر بن سيار فأبلى يومئذٍ بلاءً حسناً.
وقيل: إن قيبة قدم خراسان سنة خمس وثمانين فعرض الجند فغزوا آخرون وشومان ثم رجع إلى مرو. وقيل: إنه أقام السنة ولم يقطع النهر لسبب بلخ فإن بعضها كان منتقصاً عليه فحاربهم؛ وكان ممن سبى امرأة برمك أبي خالد بن برمك لعبد الله: إني قد علقت منك، وحضرت عبد الله بن مسلم الوفاة فأوصى أن يلحق به ما في بطنها وردت إلى برمك. فذكر أن ولد عبد الله بن مسلم جاؤوا أيام المهدي حين قدم الري إلى خالد فادعوه. فقال لهم مسلم بن قتيبة: إنه لا بد لكم إن استلحقتموه ففعل من أن تزوجوه فتركوه. وكان برمك طبيباً.

.ذكر عدة حوادث:

وفي هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك أرض الروم. وفيها حبس الحجاج يزيد بن المهلب وعزل حبيب بن المهلب عن كرمان وبعد الملك عن شرطته. وحج بالناس هشام بن إسماعيل المخزومي. وكان الأمير على العراق والمشرق كله الحجاج بن يوسف.
وفي أيام عبد الملك مات أسيد بن ظهير الأنصاري.
أسيد بضم الهمزة. وظهير بضم الظاء المعجمة.
وفيها مات عمر بن أبي سلمة، وهو ابن أم سلمة. وفي أيامه مات علقمة بن وقاص الليثي، وله صحبة. وفي هذه السنة مات قبيصة بن ذؤيب الخزاعي، وولد أول سنة من الهجرة، وحنكه النبي صلى الله عليه وسلم، وكان على خاتم عبد الملك بن مروان، وكان فيهاً. وفي أيامه مات سعد بن زيد الأنصاري، وولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وفي أيامه مات سلمة ابن أبي أم سلمة ربيب النبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذه السنة مات عبد الله بن أبي أوفى الأسلمي، وقيل سنة سبع وثمانين، شهد الحديبية وخيبر. وفي آخر أيامه مات الوليد بن عبادة بن الصامت الأنصاري، وولد في آخر زمن النبي.
وفي هذه السنة توفي لاحق بن حميد أبو مجلز السدوسي. ثم دخلت:

.سنة سبع وثمانين:

.ذكر إمارة عمر بن عبد العزيز بالمدينة:

وفي هذه السنة عزل الوليد هشام بن إسماعيل عن المدينة لسبع ليال خلون من ربيع الأول، وكانت إمارته عليها أربع سنين غير شهر أو نحوه، وولى عمر بن عبد العزيز المدينة، فقدمها والياً في ربيع الأول، وثقله على ثلاثين بعيراً، فنزل دار مروان، وجعل يدخل عليه الناس فيسلمون، فلما وصل الظهر دعا عشرةً من الفقهاء الذين في المدينة: عروة بن الزبير، وأبا بكر بن سليمان بن أبي خيثمة، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وأبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عبيد الله بن عمر، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، وخارجة بن زيد، فدخلوا عليه، فقال لهم: إنما دعوتكم لأمر تؤجرون عليه وتكونون فيه أعواناً على الحق، ولا أريد أن أقطع أمراً إلا برأيكم أو بر أيمن حضر منكم، فإن رأيتم أحداً يتعدى أو بلغكم عن عامل لي ظلام فأحرج الله على من بلغه ذلك إلا بلغني. فخرجوا يجزونه خيراً وافترقوا.
وكتب الوليد إلى عمر بن عبد العزيز يأمره أن يقف هشام بن إسماعيل للناس، وكان سيء الرأي فيه، وكان هشام بن إسماعيل يسيء جوار علي بن الحسين، فخافه هشام، فتقدم علي بن الحسين إلى خاصته ألا يعرض له أحد بكلمة، ومر به علي وقد وقف للناس ولم يعرض له، فناداه هشام: {الله أعلم حيث يجعل رسالته} الأنعام: 124.

.ذكر صلح قتيبة ونيزك:

ولما صالح قتيبة ملك شومان كتب إلى نيزك طرخان صاحب باذغيس في إطلاق من عنده من أسراء المسلمين، وكتب إليه يتهدده، فخافه نيزك فأطلق الأسرى وبعث بهم إليه، وكتب إليه قتيبة مع سليم الناصح مولى عبيد الله بن أبي بكرة يدعوه إلى الصلح وإلى أن يؤمنه، وكتب إليه بحلف بالله لئن لم يقدم عليه ليغزونه ثم ليطلبنه حيث كان حتى يظفر به أو يموت دونه.
فقدم سليم بالكتاب، فقال له نيزك، وكان يستنصحه: يا سليم ما أظن عند صاحبك خيراً، كتب إلي كتاباً لا يكتب إلى مثلي. فقال له سليم: إنه رجل شديد في سلطانه، سهل إذا سوهل، صعب إذا عوسر، فلا يمنعك منه غلظة كتابه إليك، فأحسن حالك عنده. فقام نيزك مع سليم فصالحه أهل باذعيس على أن لا يدخلها قتيبة.

.ذكر غزو الروم:

قيل: وفي هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك الروم فقتل منهم عدداً كبيراً بسوسنة من ناحية المصيصة وفتح حصوناً. وقيل: إن الذي غزا في هذه السنة هشام بن عبد الملك ففتح حصن بولق وحصن الأخرم وحصن بولس وقمقم، وقتل من المتعربة نحواً من ألف مقاتل وسبى ذريتهم ونساءهم.

.ذكر غزو قتيبة بيكند:

ولما صالح قتيبة نيزك أقام إلى وقت الغزو فغزا بي كند سنة سبع وثمانين، وهي أدنى مدائن بخاري إلى النهر، فلما نزل بهم استنصروا السعد واستمدوا من حولهم، فأتوهم في جمع كثير وأخذوا الطرق على قتيبة، فلم ينفذ لقتيبة رسول ولم يصل إليه خبر شهرين، وأبطأ خبره على الحجاج فأشفق على الجند فأمر الناس بالدعاء لهم في المساجد وهم يقتلون كل يوم.
وكان لقتيبة عين من العجم يقال له تندر، فأعطاه أهل بخارى مالاً ليرد عنهم قتيبة، فأتاه فقال له سراً من الناس: إن الحجاج قد عزل وقد أتى عامل إلى خراسان فلو رجعت بالناس كان أصلح. فأمر به فقتل خوفاً من أن يظهر الخبر فيهلك الناس، ثم أمر أصحابه بالجد في القتال فقاتلهم قتالاً شديداً، فانهزم الكفار يريدون المدينة وتبعهم المسلمون قتلاً وأسراً كيف شاؤوا، وتحصن من دخل المدينة بها، فوضع قتيبة الفعلة ليهدم سورها، فسألوه الصلح وقتلوا العامل ومن معه، فرجع قتيبة فنقب سورهم فسقط، فسألوه الصلح فلم يقبل ودخلها عنوةً وقتل من كان بها من المقاتلة.
وكان فيمن أخذوا في المدينة رجل أعور هو الذي استجاش الترك على المسلمين، فقال لقتية: أنا أفدي نفسي بخمسة آلاف حريرة قيمتها ألف ألف. فاستشار قتيبة الناس فقالوا: هذه زيادة في الغنائم وما عسى أن يبلغ كيد هذا! قال: لا والله لا يروع بك مسلم أبداً! فأمر به فقتل.
وأصابوا فيها من الغنائم والسلاح وآنية الذهب والفضة ما لا يحصى، ولا أصابوا بخراسان مثله، فقوي المسلمون، وولي قسم الغنائم عبد الله بن وألان العدوي أحد بني نلكان، وكان قتيبة يسميه الأمين ابن الأمين، فإنه كان أميناً.
وكان من حديث أمانة أبيه أن مسلماً الباهلي أبا قتيبة قال لو ألان: إن عندي مالاً أحب أن أستودعكه ولا يعلم به أحد. قال وألان: ابعث به مع رجل تثق به إلى موضع كذا وكذا ومره إذا رأى في ذلك الموضع رجلاً أن يضع المال إلى موضع كذا وكذا فإذا رأيت رجلاً جالساً فخل البغل وانصرف. ففعل المولى ما أمره وأتى المكان، وكان وألان قد سبقه إليه وانتظر، وأبطأ عليه رسول مسلم فظن أنه قد بدا له البغل ورجع، فأخذ التغلبي البغل والمال ورجع إلى منزله، وظن مسلم أن المال قد أخذه وألان فلم يسأله حتى احتاج إليه، فلقيه فقال: مالي! فقال: ما قبضت شيئاً ولا لك عندي مال، فكان مسلم يشكوه إلى الناس، فشكاه يوماً والتغلبي جالس فخلا به التغلبي وسأله عن المال فأخبره، فانطلق به إلى منزله وسلم المال إليه وأخبره الخبر، فكان مسلم يأتي الناس والقبائل فيذكر لهم عذر وألان ويخبرهم الخبر.
قال: فلما فرغ قتيبة من فتح بيكند رجع إلى مرو.

.ذكر عدة حوادث:

حج بالناس هذه السنة عمر بن عبد العزيز، وهو أمير المدينة. وكان على قضاء المدينة أبو بكر بن عمرو بن حزم. وكان على العراق وخراسان الحجاج، وكان خليفته على البصرة هذه السنة الجراح بن عبد الله الحكمي، وعلى قضائها عبد الله بن أذينة، وكان على قضاء الكوفة أبو بكر بن موسى الأشعري.
وفيها مات عبيد الله بن عباس بالمدينة، وقيل باليمن، وكان أصغر من عبد الله بسنة وفيها مات مطرف بن عبد الله بن الشخير في طاعون الجارف بالبصرة. وفيها مات المقدام بن معدي كرب الكندي، له صحبة، وقيل مات سنة إحدى وتسعين. وفيها مات أمية بن عبد الله بن أسيد.
أيد بفتح لهمزة. الشخير بكسر الشين والخاء المعجمتين، وتشديد الخاء وبعدها ياء. ثم دخلت:

.سنة ثمان وثمانين:

.ذكر فتح طوانة من بلد الروم:

في هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك والعباس بن الوليد بن عبد الملك بلد الروم، وكان الوليد قد كتب إلى صاحب أرمينية يأمره أن يكتب إلى ملك الروم يعرفه أن الخزر وغيرهم من ملوك جبال أرمينية قد اجتمعوا على قصد بلاده، ففعل ذلك، وقطع الوليد البعث على أهل الشام إلى أرمينية وأكثر وأعظم جهازه، وساروا نحو الجزيرة قم عطفوا منها إلى بلد الروم فاقتتلوا هم والروم، فانهزم الروم ثم رجعوا فانهزم المسلمون، فبقي العباس في نفر منهم ابن محيريز الجمحي فقال العباس: أين أهل القرآن الذين يريدون الجنة؟ فقال ابن محيريز: نادهم يأتوك. فنادى العباس: يا أهل القرآن! فأقبلوا جميعاً، فهزم الله الروم حتى دخلوا طوانة، وحصرهم المسلمون وفتحوها في جمادى الأولى.
قيل: وفيها ولد الوليد بن يزيد بن عبد الملك.

.ذكر عمارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم:

قيل: وفي هذه السنة كتب الوليد إلى عمر بن عبد العزيز في ربيع الأول يأمره بإدخال حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يشتري ما في نواحيه حتى يكون مائتي ذراع في مائتي ذراع، ويقول له: قدم القبلة إن قدرت، وأنت تقدر لمكان أخوالك، وإنهم لا يخالفونك، فمن أبى منهم فقوموا ملكه قيمة عدل واهدم عليهم وادفع الأثمان إليهم، فإن لك في عمر وعثمان أسوة.
فأحضرهم عمر وأقرأهم الكتاب، فأجابوه إلى الثمن، فأعطاهم إياه، وأخذوا في هدم بيون أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبنى المسجد، وقدم عليهم الفعلة من الشام، أرسلهم الوليد، وبعث الوليد إلى ملك الروم يعلمه أنه قد هدم مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ليعمره، فبعث إليه ملك الروم مائة ألف مثقال ذهب ومائة عامل وبعث إليه من الفسيفساء بأربعين جملاً، فبعث الوليد بذلك إلى عمر بن عبد العزيز، وحضر عمر ومعه الناس فوضعوا أساسه وابتدأوا بعمارته.
قيل: وفي هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك الروم أيضاً ففتح ثلاثة حصون: أحدها حصن قسطنطين وغزالة وحصن الأخرم، وقتل من المستعربة نحواً من ألف وأخذ الأموال.

.ذكر غزو نومشكث ورامثنة:

قيل: وفي هذه السنة غزا قتيبة بن مسلم نومشكث واستخلف على مرو أخاه يسار بن مسلم، فتلقاه أهلها فصالحهم، ثم سار إلى رامثنة فصالحه أهلها وانصرف عنهم.
وزحف إليه الترك ومعهم الصغد وأهل فرغانة في مائتي ألف وملكهم كور نعابون ابن أخت ملك الصين، فاعترضوا المسلمين فلحقوا عبد الرحمن بن مسلم أخا قتيبة وهو على الساقة، وبينه وبين قتيبة وأوائل العسكر ميل، فلما قربوا منه أرسل إلى قتيبة بخيره، وأدركه الترك فقاتلوه، ورجع قتيبة فانتهى إلى عبد الرحمن وهو يقاتل الترك، وقد كاد الترك يظهرون، فلما رأى المسلمون قتيبة طابت نفوسهم وقاتلوا إلى الظهر، وأبلى يومئذٍ نيزك، وهو مع قتيبة، فانهزم الترك، ورجع قتيبة فقطع النهر عند ترمذ وأتى مرو.

.ذكر ما عمل الوليد من المعروف:

وفي هذه السنة كتب الوليد إلى عمر بن عبد العزيز في تسهيل الثنايا وحفر الآبار وأمره أن يعمل الفوارة بالمدينة فعملها وأجرى ماءها، فلما حج الوليد ورآها أعجبته فأمر لها بقوام يقومون عليها، وأمر أهل المسجد أن يستقوا منها، وكتب إلى البلدان جميعها فإصلاح الطرق، وعمل الآبار، ومنع المجذمين من الخروج على الناس، وأجرى لهم الأرزاق.

.ذكر عدة حوادث:

وحج الناس هذه السنة عمر بن عبد العزيز، ووثل جماعةً من قريش، وساق معه بدناً وأحرم من ذي الحيلفة، فلما كان بالتنعيم أخبر أن مكة قليلة الماء وأنهم يخافون على الحاج العطس، فقال عمر: تعالوا ندع الله تعالى، فدعا ودعا معه الناس، فما وصلوا البيت إلا مع المطر وسال الوادي، فخاف أهل مكة من شدته، ومطرت عرفة ومكة وكثر الخصب.
وقيل: إنما حج هذه السنة عمر بن الوليد بن عبد الملك.
وكان العمال من تقدم ذكرهم.
وفيها مات سهل بن سعد الساعدي، وقيل: بل سنة إحدى وتسعين، وله مائة سنة. وعبد الله بن بسر المازني من مازن بن منصور، وكان ممن صلى القبلتين، وهو آخر من مات بالشام من الصحابة.
بسر بضم الباء الموحدة، وبالسين المهملة. ثم دخلت: